ثانيا: تخير الكلمة
من نقاط الالتقاء بين "النظام القرآني" والنظام الكوني" وضع كل شيء في محله الطبيعي المناسب له، بحيث يسبب أي تلاعب - ولو بسيطا - خللاً في النظام وفسادا. ففي النظام الكوني نجد أن كل ذرة من ذرات الوجود وجدت لحكمة، ووضعت في مكانها الخاص بها لحكمة، بحيث لو حدث أي تغيير في ذلك لاختل جانب من جوانب الحياة.
وفي النظام القرآني نجد أن كل كلمة في القرآن وضعت في محلها الطبيعي، بحيث لا يمكن أن تسد أية كلمة أخرى مكانها، ولا أن تعطي نفس الأبعاد والظلال التي كانت تعطيها تلك الكلمة. وهذا ما يدفعنا إلى البحث عن سر استخدام القرآن الكريم لهذه الكلمة لا غيرها وبهذا الشكل لا غيره. وفيما يلي بعض النماذج الإيضاحية:
(1)
يقول القرآن الكريم: ((أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِر))1.
إن معنى الآية الكريمة واضح، وهو - على ما يعطيه السياق: شغلكم التكاثر في متاع الدنيا وزينتها، والتسابق في تكثير العدة عما يهمكم وهو ذكر الله، حتى لقيتم الموت، فعمتكم الغفلة مدى الحياة2 ، ولكن السؤال هو: لماذا يستعمل القرآن كلمة "زرتم"؟ لماذا لم يقل: "حتى سكنتم المقابر" أو "ملأتم المقابر" أو "حللتم المقابر"؟ والجواب: ربما ليلفت الأنظار إلى أن المقام في القبر مقام مؤقت، وأن الدخول إلى القبر دخول زيارة لا سكن، خلافاً للأفكار المادية الضيقة التي تعتبر الموت هو النهاية، والقبر هو آخر المطاف.
(2)
يقول القرآن الكريم وهو يتحدث عن قصة زكريا (عليه السلام)، بعد أن بشرته الملائكة بيحيى (عليه السلام): ((قَالَ رَبّ أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَال كَذَلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاء))3.
وهنا نجد القرآن يستخدم كلمة "يفعل": ((كَذَلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاء)). ويقول القرآن الكريم وهو يتحدث عن قصة مريم (عليها السلام) بعد أن بشرتها الملائكة بعيسى (عليه السلام): ((قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِك اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُون))4 وهنا نجد القرآن يستخدم كلمة "يخلق": ((كَذَلِك اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء))، فما هو الفرق بين الموضوعين؟
والجواب: في قصة زكريا (عليه السلام) كانت عوامل الولادة الطبيعية (من وجود الزوج والزوجة وغيرهما)، لكن كانت هناك موانع في الطريق، والله سبحانه رفع هذه الموانع، ولذلك كان التعبير بـ "الفعل". تماماً كما لو أن العلم توصل إلى علاج لرفع العقم، وإعادة الشيخ إلى صباه قوة وقدرة. فهذا لا يعتبر خلقاً للجنين، وإنما "فعلاً" رفع العقبة عن الطريق.
أما في قضية مريم (عليه السلام) فلم تكن عوامل الولادة الطبيعية متوفرة، وإنما كان تكويناً إعجازياً يرتبط بالغيب، ومن هنا كان التعبير عنه بـ "الخلق".
(3)
يقول القرآن الكريم: ((وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُم قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا))5.
عند النظرة السطحية العابرة قد يبدو أن الشكل الطبيعي للآية الكريمة كان يجب أن يكون: "وارزقوهم منها" وليس "ارزقوهم فيها"، أليس كذلك؟ ولكننا نستطيع أن نفهم من استبدال كلمة "منها" بـ "فيها" ضرورة استثمار الولي لمال السفيه، وعدم تجميدها على حالتها الأولى6، ذلك لأنك قد تقول: "أكلت من الطعام،" وهذا يعني أن الطعام هو الذي أكل، وأن النقص ورد عليه لا على غيره. أما عندما تقول: "أكلت في الصحن" فهذا بالطبع لا يدل على أنك أكلت الصحن، وإنما يعني أكلت ما كان في الصحن.
وإذا كان القرآن يستخدم كلمة "منها" قائلا: "وارزقوهم منها" لكان معناه: الأكل من نفس مال السفيه، ولكن استخدام القرآن لكلمة "فيها" يدل على التنمية المالية، فالمال - هنا - يظل محفوظا كما يظل الظرف محفوظاً في قولك: "أكلت في الصحن،" ولكن ما تولد من هذا المال هو الذي ينفق منه على السفيه. وهكذا، نستنتج من استبدال كلمة بسيطة مكان أخرى هذه القاعدة الاقتصادية المهمة.